قدموس وأديب ملكا ، دراسة مقارباتية بين المسرحيتين
قدموس و أوديب ملكًا
دراسة فنية تاريخية
قدموس
جاء في إحدى الأساطير اليونانيّة أنّه "لمّا اختطف زوش، كبير الآلهة أروب، بنت ملك صيدون، لحق بهما قدموس إلى بلاد الأغارقة يستردّ أخته. وفي البيوسي قتل تنّينًا كان قد فتك باثنين من رجاله، وبأمر إلهة الحكمة بذرَ أضراسه في الأرض، فأنبتت رجالاً شاكي السّلاح اقتتلوا إلاّ خمسةً أصبحوا في ما بعد نبلاء ثيبا، أولى مدنٍ مائة وواحدة سوف يبنيها قدموس. وأورب هي التي أعطت الغربَ اسمَها كما أعطاه قدموس حروف الهجاء، أداةَ المعرفة"[1]. وقد تناول سعيد عقل هذه الأسطورة، وأنشأ منها مأساة فريدة كان لها أثر جليل في الأدب العربيّ.
زوس ZEUS
أوديب ملكًا
موضوعها سلطان القّدر السّاحق الذي قد تتحوّل به انتصارات المرء إلى هزائم، وهزائمه إلى انتصارات. ومادّة الموضوع هي الأسطورة اليونانيّة الشّهيرة، التي فيها تنبّأ الكاهن بأنّه سيولد للايوس، ملك ثيبا، ولد يقتل أباه ويتزوّج بأمّه. فيأمر ذلك الملك راعيًا من الرّعاة بأن يأخذ ابنه الوليد، ويلقيَه على جبل كي يفترسه وحش.
وقد أشفق الرّاعي على الطّفل وأسلمه لراعٍ آخر حمله إلى يوليبوس ملك مدينة كورنثه، المحروم من الولد؛ فربّاه وهيّأه لولاية عهده. وعندما تنبّأت العرّافة أنّه سيقتل أباه ويتزوّج بأمّه، يهوله ذلك، ويغادر أوديب كورنثه لئلاّ يقع في المحظور، ويتوجّه إلى ثيبا، وهي وطنه الحقيقيّ. وفي الطّريق، يلتقي برجل على عربة، خلفه خمسة من أتباعه، فيشتبك معهم ويصرعهم، وكان هذا الرّجل هو أباه لايوس، من دون أن يعلم. ويدخل طيبة، فيجد أهلها في فزع من وحش له جسم أسد ووجه امرأة وأجنحة نسر، يلتقي بمن يصادف من مدينة ثيبا ، فيضع له لغزًا عن الحيوان الذي يمشي في الصّباح على أربع، وفي الظّهيرة على اثنتين، وفي المساء على ثلاث. ويقتل من لا يجيبه على اللغز.
ويحلّ أوديب اللغز بأنّ ذلك الحيوان هو الإنسان الذي يحبو طفلاً، ويسير على رجليه رجلاً، ويتوكّأ على العصا شيخًا. فيقتل الوحش نفسه. ويستحقّ أوديب بذلك أن يصير ملكًا، ويتزوّج من جوكاستا أرملة والده الذي قتله دون أن يعلم، ثمّ تنقم الآلهة على المدينة، فتصيبها بوباء، وتتنبّأ عرّافة أبولو بأنّ الوباء لن ينكشف عن المدينة ما لم يعاقب الأثيم الذي قتل لايوس. ويجتمع الكهّان ويطلبون إلى أوديب أن يبحث عن القاتل.
أعظم من عالج الموضوع قديمًا في المسرحيّة هو صوفوكليس. ومأساة "أوديب ملكًا" تتناول الموضوع منذ فترة الوباء في ثيباوالبحث عن القاتل. وحين يكتشف أوديب أنّه ذلك الأثيم القاتل لأبيه والمتزوّج من أمّه، يفقأ عينيه حتّى لا يرى أمّه وثمرات زواجه منها"[2].
سعيد عقل
3. سعيد عقل وظروف كتابة قدموس
سعيد عقل شاعر فذّ وأديب غنيّ الأفكار، وصاحب مدرسة فكريّة، أدبيّة، سياسيّة خاصّة، قوامها تاريخ لبنان وحضارته القديمة، ورسالته بين الشّعوب. وُلد في زحلة عام 1912 في آخر الحكم العثماني، ومارس التّعليم والصّحافة. من آثاره قصيدة فخر الدّين (1935) وبنت يفتاح (1935) وقدموس، الطبعة الأولى (1944) والطبعة الثّانية (1947) والمجدليّة (1937) ورندلى(1950) وأجمل منك لا! (1960) ويارا (بالحرف اللاتيني 1960) وأجراس الياسمين (1971) ودلزى (1973) وقصائد من دفترها (1973) وكما الأعمدة (1974).
كتب سعيد عقل "قدموس" يوم كانت تتنازع لبنان غيرُ نزعة قوميّة وأمّويّة، وذلك لأنّ موقعه الجغرافي، وأنتروبولوجيّة إنسانه المتميّزة، وتأثّره بغير حضارة وفكر، جعلت منه نقطة تجاذب بين عقائد مختلفة. فلبنان يعيش في محيط عربيّ، لذلك كانت فكرة القوميّة العربيّة تستحوذ على الكثيرين من بنيه، تحدو بهم رغبة جامحة إلى التّفلّت من السّيطرة الخارجيّة والاستعمار الغربيّ. وكانت أفكار أنطون سعادة التي تدعو إلى إنشاء سوريا الكبرى، وتوحيد الهلال الخصيب، وفصل الدّين عن الدّولة، وإلغاء الطّائفيّة، قد بدأت تلقى رواجًا في بعض الأوساط؛ بالإضافة إلى نشوء الحزب الشّيوعي الذي كان يحاول تسيير لبنان في ركاب الفكر السّوفياتي. وكذلك كان قد نشأ حزب الكتائب اللبنانيّة الدّاعي إلى لبنانيّة لبنان وفرادته بين الدّول العربيّة. ونشأ حزب النّجّادة ... وكان لبنان آنذاك على عتبة استقلاله يوم كتابة قدموس. وكأنّ سعيد عقل أرادها مناسبة للتأكيد على فكر أيديولوجيّ سياسيّ بين التّيّارات المتنازعة: فلبنان له دور مميّز بين الشّعوب، لأنّه بلد عريق بحضارته وبدوره الرّائد في ابتداع الحرف ونشر العلم، وفي التّجارة والمغامرة.
فنحن، إذًا، أمام ملحمة حضاريّة، تناول الشّاعر فيها الأسطورة، وأنشأ منها مأساة فريدة، متعمّدًا التّركيز على شأنٍ وطنيّ جلل، إذ تبدأ الأحداث بخطف أوروب ابنة أشنّار ملك صيدون، وتدخّل الآلهة والقَدَر الغاشم في مصائر النّاس العظام، الذين يمثّلون الأمّة. فهؤلاء، بتصدّيهم للأهوال وبمعاندتهم للآلهة، يحملون هموم شعب ويحدّدون مصيره. لذلك فالصّراع النّفسيّ يبلغ أشدّه عندما يُضطرّ البطل الصّيدوني إلى أن يختار بين قتل التنّين، وفي ذلك ربحه للمعركة، وخسارته لأخته أوروب وموتها؛ أو المساومة والانكفاء، وفي ذلك خسارته لشرفه ولرفعة شعبه وعزّته، وبقاء أخته أوروب على قيد الحياة. ولكنّ الصّيدونيّ لا يساوم ولا يتردّد، وتبرز في ذلك روح التّخطّي والارتقاء، فتصل المأساة إلى ذروتها.
4. صوفوكليس وظروف كتابة أوديب ملكًا
ولد صوفوكليس في بلدة كولونا ، وهي بلدة في ضواحي أثينا، عام 496 ق.م. وكانت أسرته ميسورة، ووالده يملك مصنعًا للأسلحة، فاستقدم إلى منزله خير الأساتذة لتعليمه، من بينهم معلم منطق وفلسفة . وكانت العلوم في أيّامه على وجهين: حُسن الخَلْق، وحُسن الخُلُق καλός καi αγαπός .
وفي سنة 490 ق. م. بدأت الحروب الـماديّة بين الفرس واليونان، وانهزم العملاق الفارسيّ أمام تصميم أقلّيّة يونانيّة. "واتّفق أنّ نوًّا شديدًا حطّم الأسطول الفارسيّ بقرب جبل آثوس، وكان أهل التراس قد ظهروا على مردونيوس وقتلوا عددًا كبيرًا من جيشه فعاد إلى آسيا. وأرسل داريوس حملة ثانية [...] واشتدّ بينهما النّزال إلى أن فازت الفئة القليلة [...] وحاول الأسطول الفارسيّ أن يداهم أثينا ففشل وقفل راجعًا إلى بلاده"[3]. وعام 480 ق. م. شنّ داريوس، ملك الفرس، حربًا ثالثة واحتلّألتراس ومكدونيا وتساليا، وتقدّم بجيشه حتّى دخل أثينا؛ ولكنّ الأثينيّين والإسبرطيّين عادوا فانتصروا عليه في معركة سلاميناودحروا الفرس[4]. وكان صوفوكليس قد بلغ السّادسة عشرة من العمر فقاد الخورص احتفاءً بالانتصار العظيم. وفي عام 443 ق. م. انتُخِب خازنًا للمال، وعام 441 ق. م. شارك في معركة ساموس. وألّف مسرحيّة أوديب ملكًا حوالي سنة421 ق. م. وبعدها اختاره الشّعب ليضع مخطّطاً إصلاحيًّا للأمّة، لكنّه اتُّهم بالتورّط في الانقلاب على الدّيمقراطيّة، ولم يغفر له الشّعب ذلك. واتّهمه ابنه بالاختلال والخرَف، وليدافع عن نفسه قرأ أمام القضاة نشيد الخورص في مسرحيّة أوديب في كولون. ومات عام 406.
5. بين شخصيّة صوفوكليس وشخصيّة سعيد عقل
أ. بقي صوفوكليس خاضعًا لسلطة معلّميه حتّى بلوغه العشرين من العمر، فنشأ موزونًا، مصقول الشّخصيّة، محبًا للكمال، ومثاليًّا في تطلّعاته. وكانت نشأته إبّان الحروب الماديّة واقتحام الفرس لأثينا، فقاد الخورص وساهم في تشجيع الجنود المدافعين عن بلاد الإغريق، وهذا ما ينعكس اعتزازًا بشعبه في أعماله المسرحيّة. وقد تقلّد منصبًا مهمًا، ونال إعجاب الشّعب الذي أوكل إليه أمر الإصلاح في الدّولة.
صوفوكليس
ب. سعيد عقل، وعلى الرّغم من عصاميّته، كان متفلّتًا من القيود، وقد نشأ متّكلاً على ذاته في تعلّمه (autodidacte)، متفائلاً بالحياة وبالمستقبل، في وقت كانت تركيّا تحتلّ لبنان، والحرب العالميّة الأولى تلقي بأوزارها على المنطقة. وبعد دخول الحلفاء إلى لبنان سنة 1918 وإعلان الإنتداب على لبنان وسوريا سنة 1920، أُعلنت دولة لبنان الكبير في السّنة نفسها. وقد واكبَ سعيد عقل ظهور النّازيّة عام 1933، فبان تأثيرها في كتابته لـ"بنت يفتاح" (1935)، كما تأثّر بهذا التّيّار الجديد غيره من السّياسيّين.
وكانت لغته الثّانية هي الفرنسيّة، فانطبعت في ذهنه أفكار الكلاسيّكيّة، إذ أخذ عن راسين مفهوم الأزمة المأسويّة la crise(κρίσις)، ووحدة الزّمان والمكان والعمل، فأتت أعماله كلاسيكيّةً بامتياز. وكما كان الوزن الشّعري الاسكندري (l’alexandrin) هو المتّبع في الأعمال الكلاسيكيّة الفرنسيّة، هكذا اعتمد سعيد عقل وزن بحر الخفيف في المأساة. وكذلك أخذ عن راسين موافقةَ الشّعر صوتيًا للمواقف، والتّآلف بين الصّوت والمعنى، وأنّ العمل بحدّ ذاته هو عامل نفسيّ، وأنّ الشّفافيّة هي في الشّعر لا في الصّور المعقّدة.
ونلاحظ أيضًا تأثّر سعيد عقل بالمدرسة الرّمزيّة، وبـ بول فاليري تحديدًا، وكذلك ميله إلى شوفينيّة عميقة تخالطها شطحات صوفيّة. فله أسلوب خاصّ في التّعبير الفوقيّ، تبرز من خلاله عنجهيّة الفينيقيّ الذي كان السّبّاق دائمًا، وتأتي لغته مسبوكةً سبكًا، وفيها الكثير من التّأنّق والإعجاز.
وكما تأثّر بـ راسين وفاليري، كذلك تأثّر بـ شكسبير بالنّفحة الغنائيّة lyrique والملحميّة Epique، فالملحمة هي أدب الأساطير والبطولات الخارقة والمبالغات، حيث لا وجود للـ"أنا"، وهي كذلك أدب الطّفولة. وأمّا الرّومنسيّة فهي إبراز ااـ"أنا" ((Εγοفي القصيدة الغنائيّة الوجدانيّة.
وفي الأدب المأسويّ نلحظ أدب النّضج، الذي تتصارع فيه الأفكار والمواقف بين الـ أنا ونحن و هم، ويصل التّوتّر إلى ذروته في ساعة الصّراع مع الذّات بين موقفين. فهذا الأدب هو أدب الأزمات والعراك κρίσις.
6. توليف ظروف كتابة المأساتين متشابه إلى حدّ بعيد، على الرغم من الفارق التّاريخيّ الزّمني (حوالي 2360سنة)، فبلاد الإغريقكانت تعاني حملات الفرس عليها، والحروب الماديّة منذ سنة 500 ق. م. وبعدها حرب المورة (البيلوبونيز) بين العامين 431 و 421، ثمّ حملة صقلّيا والحرب بين أثينا واسبرطة، وقلب الحكومة في أثينا ما بين العامين 425 و 413 .
ولبنان، في المقابل، كان يرزح تحت الاحتلال العثمانيّ حتّى نشوب الحرب العالميّة الأولى عام 1914. وبعد الحرب التي عاناها شعبه، وقساوة الحصار والجوع، بدأ الاحتلال الفرنسيّ، ولكن تحت غطاء الشرعيّة الدّوليّة المتمثّلة بعصبة الأمم. وكان صراعٌ مستمرّ، إلى أن حصل لبنان على اعتراف باستقلاله عام 1943 خلال الحرب العالميّة الثّانية. ولكنّ الجيوش الأجنبيّة بقيت في لبنان على الرغم من نيله استقلاله حتّى العام 1946. وأثناء ذلك، كان التّجاذب على أشدّه بين فئات الطّوائف التي يتكوّن منها النّسيج الوطني. علاوةً على التّيّارات السّياسيّة والفكريّة المحلّيّة والإقليميّة والعالميّة.
كتب صوفوكليس أوديب ملكًا عندما كان عمره ثمانية وأربعين عامًا؛ في حين أنّ سعيد عقل بدأ بكتابة قدموس وهو في الخامسة والعشرين من عمره.
في أوديب ملكًا، يبرز الأدب القومي عند صوفوكل، وفيه عنفوان واعتزاز، مشفوعًا بالدّيمقراطيّة التي نشأت أصلاً في المجتمع الإغريقيّ. وكذلك عند سعيد عقل يظهر الاعتزاز الوطنيّ والعنفوان القوميّ في قدموس، الذي يمثّل عزّة الشّعب الفينيقيّ بأسره.
لا عجب إذًا في أن يميل الإثنان إلى المأساة، فهما عاشا في أزمنة حروب ومآسٍ، وشعرا بأوزار الاحتلال، ففي الحروب تبلغ العواطف الإنسانيّة ذروتها، ولا يبقى حلّ وسطيّ، فإمّا الحبّ وإمّا الكره. وهكذا قدموس وأوديب، يريدان كلّ شيء أو لا شيء. وقد وعرف صوفوكل وسعيد عقل قدر وطنهما وفضلَهما على العالم، فالإغريق علّموا العالم المنطق والفلسفة والدّيمقراطيّة والفنون؛ والفينيقيّون أعطَوه الكنْز الأعظم: الحرف. وهكذا كان كلّ مُصاب يُلمّ بالوطن حافزًا للتّخطّي والرّؤيا اللذين يقوم عليهما العمل المسرحيّ المأسويّ.
وكانت لغته الثّانية هي الفرنسيّة، فانطبعت في ذهنه أفكار الكلاسيّكيّة، إذ أخذ عن راسين مفهوم الأزمة المأسويّة la crise(κρίσις)، ووحدة الزّمان والمكان والعمل، فأتت أعماله كلاسيكيّةً بامتياز. وكما كان الوزن الشّعري الاسكندري (l’alexandrin) هو المتّبع في الأعمال الكلاسيكيّة الفرنسيّة، هكذا اعتمد سعيد عقل وزن بحر الخفيف في المأساة. وكذلك أخذ عن راسين موافقةَ الشّعر صوتيًا للمواقف، والتّآلف بين الصّوت والمعنى، وأنّ العمل بحدّ ذاته هو عامل نفسيّ، وأنّ الشّفافيّة هي في الشّعر لا في الصّور المعقّدة.
ونلاحظ أيضًا تأثّر سعيد عقل بالمدرسة الرّمزيّة، وبـ بول فاليري تحديدًا، وكذلك ميله إلى شوفينيّة عميقة تخالطها شطحات صوفيّة. فله أسلوب خاصّ في التّعبير الفوقيّ، تبرز من خلاله عنجهيّة الفينيقيّ الذي كان السّبّاق دائمًا، وتأتي لغته مسبوكةً سبكًا، وفيها الكثير من التّأنّق والإعجاز.
وكما تأثّر بـ راسين وفاليري، كذلك تأثّر بـ شكسبير بالنّفحة الغنائيّة lyrique والملحميّة Epique، فالملحمة هي أدب الأساطير والبطولات الخارقة والمبالغات، حيث لا وجود للـ"أنا"، وهي كذلك أدب الطّفولة. وأمّا الرّومنسيّة فهي إبراز ااـ"أنا" ((Εγοفي القصيدة الغنائيّة الوجدانيّة.
وفي الأدب المأسويّ نلحظ أدب النّضج، الذي تتصارع فيه الأفكار والمواقف بين الـ أنا ونحن و هم، ويصل التّوتّر إلى ذروته في ساعة الصّراع مع الذّات بين موقفين. فهذا الأدب هو أدب الأزمات والعراك κρίσις.
6. توليف ظروف كتابة المأساتين متشابه إلى حدّ بعيد، على الرغم من الفارق التّاريخيّ الزّمني (حوالي 2360سنة)، فبلاد الإغريقكانت تعاني حملات الفرس عليها، والحروب الماديّة منذ سنة 500 ق. م. وبعدها حرب المورة (البيلوبونيز) بين العامين 431 و 421، ثمّ حملة صقلّيا والحرب بين أثينا واسبرطة، وقلب الحكومة في أثينا ما بين العامين 425 و 413 .
ولبنان، في المقابل، كان يرزح تحت الاحتلال العثمانيّ حتّى نشوب الحرب العالميّة الأولى عام 1914. وبعد الحرب التي عاناها شعبه، وقساوة الحصار والجوع، بدأ الاحتلال الفرنسيّ، ولكن تحت غطاء الشرعيّة الدّوليّة المتمثّلة بعصبة الأمم. وكان صراعٌ مستمرّ، إلى أن حصل لبنان على اعتراف باستقلاله عام 1943 خلال الحرب العالميّة الثّانية. ولكنّ الجيوش الأجنبيّة بقيت في لبنان على الرغم من نيله استقلاله حتّى العام 1946. وأثناء ذلك، كان التّجاذب على أشدّه بين فئات الطّوائف التي يتكوّن منها النّسيج الوطني. علاوةً على التّيّارات السّياسيّة والفكريّة المحلّيّة والإقليميّة والعالميّة.
كتب صوفوكليس أوديب ملكًا عندما كان عمره ثمانية وأربعين عامًا؛ في حين أنّ سعيد عقل بدأ بكتابة قدموس وهو في الخامسة والعشرين من عمره.
في أوديب ملكًا، يبرز الأدب القومي عند صوفوكل، وفيه عنفوان واعتزاز، مشفوعًا بالدّيمقراطيّة التي نشأت أصلاً في المجتمع الإغريقيّ. وكذلك عند سعيد عقل يظهر الاعتزاز الوطنيّ والعنفوان القوميّ في قدموس، الذي يمثّل عزّة الشّعب الفينيقيّ بأسره.
لا عجب إذًا في أن يميل الإثنان إلى المأساة، فهما عاشا في أزمنة حروب ومآسٍ، وشعرا بأوزار الاحتلال، ففي الحروب تبلغ العواطف الإنسانيّة ذروتها، ولا يبقى حلّ وسطيّ، فإمّا الحبّ وإمّا الكره. وهكذا قدموس وأوديب، يريدان كلّ شيء أو لا شيء. وقد وعرف صوفوكل وسعيد عقل قدر وطنهما وفضلَهما على العالم، فالإغريق علّموا العالم المنطق والفلسفة والدّيمقراطيّة والفنون؛ والفينيقيّون أعطَوه الكنْز الأعظم: الحرف. وهكذا كان كلّ مُصاب يُلمّ بالوطن حافزًا للتّخطّي والرّؤيا اللذين يقوم عليهما العمل المسرحيّ المأسويّ.
القسم الثّـاني
أوديب ملكا و قـدموس أوجه الائتلاف والاختلاف
1. الشّخصيّات
أ. في أوديب ملكًا· أوديب ملك ثيبا: تقول الأسطورة الإغريقيّة إنّه ابن لايوس (ملك ثيبا) ابن لفداكوس، ابن بوليدوروس، ابن قدموس، ابن أغينور (أشنّار) ملك صور.
· الكاهن: هو الشّيخ، خادم جوبيتير، وحامل هموم الشّعب.
· كريون: هو أخو جوكاست وشريكه في الحكم.
· تيريزياس: عرّاف أعمى (يقرأ المستقبل بوساطة أبولون إله المعرفة).
· جوكاست: ملكة ثيبا (أمّ أوديب) وزوج لايوس، ثمّ لاحقًا زوج أوديب.
· الرّسول الكورنثي: راعٍ عند ملك كورانثوس
· الخادم: راعٍ عند لايوس ملك ثيبا
· رسول القصر: خادم تابع للبلاط الملكيّ
· الخورص: خمسة عشر شيخًا من ثيبا
· حرّاس وخدّام
ب. في قدموس· قدموس: إبن الملك أشنار
· أورُب: إخت قدموس وعروسة زوش
· مِرى: مرضع قدموس وأورُب
· الأعمى: عرّاف إغريقي
· جوقات: من إلاهات، وبحّارة صيادنة، ومقاتلة أغارقة
يتحدّر أوديب إذًا من سلالة أشنّار ملك صيدون، فهو حفيد قدموس من الجيل الرّابع بعده، وهو ملكٌ عزيز ورجلُ دولة يسهر على صالح شعبه وخيره، حليمٌ وكلّيّ السّلطة. وكأنّ سعيد عقل أراد أن تكون مسرحيّة أوديب ملكًا تتمّةً لـ قدموس بن أشنّار. فسَفر قدموس إلى بلاد الإغريق، ومجازفته بكلّ شيء كان لاسترداد أخته أورُب، واستعادة شرف شعبه، رافضًا كلّ مساومة. وأمّا أوديب فكان يريد أن يرفع لعنة القدر، ويخلّص شعبه من مرض الطّاعون، ولو كان الثّمن التّخلّيَ عن كلّ شيء في الدّنيا، بما في ذلك حبّه وبناته وعرشه.
فحبّ الوطن هو الأقوى عند الإثنين. وفي سبيل شرف الأمّة تنسحق الـ"أنا" وتُكبت العواطف الإنسانيّة. وهذا التّخطّي والارتقاءsublimation) ) هو الذي يعطي المأساة طابع البذل والتّخلّي عن كلّ شيء في سبيل الهدف الأسمى. ففي الرّؤيا المأسويّة إذًا نجد تقاربًا بين البطلين: أوديب يحارب الخواء المتمثّل بالطّاعون؛ وقدموس يحارب الخواء المتمثّل بالتّنّين.
· الكاهن: هو الشّيخ، خادم جوبيتير، وحامل هموم الشّعب.
· كريون: هو أخو جوكاست وشريكه في الحكم.
· تيريزياس: عرّاف أعمى (يقرأ المستقبل بوساطة أبولون إله المعرفة).
· جوكاست: ملكة ثيبا (أمّ أوديب) وزوج لايوس، ثمّ لاحقًا زوج أوديب.
· الرّسول الكورنثي: راعٍ عند ملك كورانثوس
· الخادم: راعٍ عند لايوس ملك ثيبا
· رسول القصر: خادم تابع للبلاط الملكيّ
· الخورص: خمسة عشر شيخًا من ثيبا
· حرّاس وخدّام
ب. في قدموس· قدموس: إبن الملك أشنار
· أورُب: إخت قدموس وعروسة زوش
· مِرى: مرضع قدموس وأورُب
· الأعمى: عرّاف إغريقي
· جوقات: من إلاهات، وبحّارة صيادنة، ومقاتلة أغارقة
يتحدّر أوديب إذًا من سلالة أشنّار ملك صيدون، فهو حفيد قدموس من الجيل الرّابع بعده، وهو ملكٌ عزيز ورجلُ دولة يسهر على صالح شعبه وخيره، حليمٌ وكلّيّ السّلطة. وكأنّ سعيد عقل أراد أن تكون مسرحيّة أوديب ملكًا تتمّةً لـ قدموس بن أشنّار. فسَفر قدموس إلى بلاد الإغريق، ومجازفته بكلّ شيء كان لاسترداد أخته أورُب، واستعادة شرف شعبه، رافضًا كلّ مساومة. وأمّا أوديب فكان يريد أن يرفع لعنة القدر، ويخلّص شعبه من مرض الطّاعون، ولو كان الثّمن التّخلّيَ عن كلّ شيء في الدّنيا، بما في ذلك حبّه وبناته وعرشه.
فحبّ الوطن هو الأقوى عند الإثنين. وفي سبيل شرف الأمّة تنسحق الـ"أنا" وتُكبت العواطف الإنسانيّة. وهذا التّخطّي والارتقاءsublimation) ) هو الذي يعطي المأساة طابع البذل والتّخلّي عن كلّ شيء في سبيل الهدف الأسمى. ففي الرّؤيا المأسويّة إذًا نجد تقاربًا بين البطلين: أوديب يحارب الخواء المتمثّل بالطّاعون؛ وقدموس يحارب الخواء المتمثّل بالتّنّين.
2. الخورص والجوقات
أ. الخورص في أوديب ملكًا دور الخورص في التّراجيديا اليونانيّة أساسيّ لتوفير جوّ القداسة، وإضفاء روح الاحتفال على المسرح اليونانيّ، وهذا ما يخلق انطباعًا باحترام الإغريق لمعتقداتهم الدّينيّة. فالخورص يمثّل ضمير الأمّة ويعكس القيم الدّينيّة؛ وهو المُشاهدُ الأوّل على المسرح، والحاضر دائمًا ساعة الحدث: كلّ انطباع يتركه الحدث على المشاهدين يترجمه الخورص بنشيد يغذّي المشاعر والعواطف؛ ويشحن النّفوس بالانفعالات إلى مداها الأقصى، مع كلّ ما يرافق ذلك من تردّد أو تساؤل أو أسف. فالخورص إذًا هو واحد من شخصيّات التّراجيديا، ولكنّه من الخارج يكمل العمل المأسويّ. وقد يتدخّل بين الفصول، أو في أماكن معيّنة من الحوار - وهو الحاضر أبدًا - فيتوجّه إلى المشاهدين، أو يعبّر عن ذاته، ولكنّه لا يتوجّه أبدًا بالكلام إلى الممثّلين.
والخورص المكوّن من خمسة عشر عنصرًا من شيوخ ثيبا ينقسم إلى فريقين في حركة راقصة، فبعد أن ينشد الفريق الأوّل (strophe)، يردّ عليه الفريق الثّاني (antistrophe). ويعبّر الخورص عن ذاته بوساطة ضمير المتكلّم "أنا" أو المتكلّمين "نحن". وينشد أشعاره بمصاحبة النّاي أو اللير λύρα))، فهو يجسّد ضمير شعب ثيبا حين تلمّ بهم الأوصاب، ويعتمد اللهجة الغنائيّة الوجدانيّة في إبرازه للشّكّ أو التّأسّي أو المناحة (κόμος )، والخورص لا يُخفي ميله إلى أوديب وتعاطفه معه. وفي المقابل يمكن لأوديب أن يتوجّه إليه بالكلام.
والخورص في مسرحيّة أوديب ملكًا يؤمّن وحدة الزّمن، ويحافظ على تتابع الأحداث منذ دخوله في البارودوس (παρόδος)حتّى آخر الإكزودوس (εξόδος)، فالفصول الأربعة ليست محدّدة عند صوفوكليس كما عند سعيد عقل، بل هي مترابطة الأجزاء، وذلك لأنّ العمل المسرحيّ برمّته متتابع ويعتمد على لقاءات أوديب المتلاحقة بخصومه؛ في حين أنه في قدموس، يقوم على مشاهد منفصلةٍ وفصول، يمكن أن تُقفَل السّتارة في نهايتها.
ب. الجوقات في قدموس الخورص في قدموس يتكوّن من ثلاث جوقات: إلاهات، وبحّارة صيادنة، ومقاتلة أغارقة. وليس غريبًا أن تشارك الإلاهات في الخورص، ليبقى الجوّ القدسيّ والأسطوريّ مخيّمًا على التّراجيديا. وما مشاركة المقاتلين الأغارقة في الإنشاد إلاّ ليعيد إلى الأذهان صلات القربى بين القدامسة والأغارقة. وأمّا البحّارة فيمثّلون الصّيادنة الذين فَرَوا عباب اليمّ، وتحدَّوا المخاطر، ليبلغوا أقاصي الأرض.
ولهذه الجّوقات تدخّل في أواخر كلٍّ من الفصول الثّلاثة، ولكنّ المنشدين يُنشدون أغانيهم من داخل الكواليس، ولا يتدخّلون في الحدث ولا يتوجّهون بالكلام إلى الممثّلين، ولا يظهرون على خشبة المسرح كما في مسرحيّة أوديب ملكًا. وأغاني البحّارة في نهاية الفصل الأوّل تعبيرٌ عن فخرهم بقوّتهم وعنفوانهم وجمال وطنهم، وبتحدّيهم البحار واقتحامهم الأمواج بمراكبهم المصنوعة من أخشاب الأرز، قصد المغامرة والتّجارة، وذلك لزيادة العصف المأسويّ، وتعبئة البطل في مواجهة خصومه؛ والمقاتلة الأغارقةينشدون في أواخر الفصل الثّاني نشيد القتال، وأمّا الإلاهات فدورهنّ ينحصر في نهاية الفصل الثّالث بثلاثة أناشيد فيها نَوح(κύμος) ولوعة على أورُب.
والخورص المكوّن من خمسة عشر عنصرًا من شيوخ ثيبا ينقسم إلى فريقين في حركة راقصة، فبعد أن ينشد الفريق الأوّل (strophe)، يردّ عليه الفريق الثّاني (antistrophe). ويعبّر الخورص عن ذاته بوساطة ضمير المتكلّم "أنا" أو المتكلّمين "نحن". وينشد أشعاره بمصاحبة النّاي أو اللير λύρα))، فهو يجسّد ضمير شعب ثيبا حين تلمّ بهم الأوصاب، ويعتمد اللهجة الغنائيّة الوجدانيّة في إبرازه للشّكّ أو التّأسّي أو المناحة (κόμος )، والخورص لا يُخفي ميله إلى أوديب وتعاطفه معه. وفي المقابل يمكن لأوديب أن يتوجّه إليه بالكلام.
والخورص في مسرحيّة أوديب ملكًا يؤمّن وحدة الزّمن، ويحافظ على تتابع الأحداث منذ دخوله في البارودوس (παρόδος)حتّى آخر الإكزودوس (εξόδος)، فالفصول الأربعة ليست محدّدة عند صوفوكليس كما عند سعيد عقل، بل هي مترابطة الأجزاء، وذلك لأنّ العمل المسرحيّ برمّته متتابع ويعتمد على لقاءات أوديب المتلاحقة بخصومه؛ في حين أنه في قدموس، يقوم على مشاهد منفصلةٍ وفصول، يمكن أن تُقفَل السّتارة في نهايتها.
ب. الجوقات في قدموس الخورص في قدموس يتكوّن من ثلاث جوقات: إلاهات، وبحّارة صيادنة، ومقاتلة أغارقة. وليس غريبًا أن تشارك الإلاهات في الخورص، ليبقى الجوّ القدسيّ والأسطوريّ مخيّمًا على التّراجيديا. وما مشاركة المقاتلين الأغارقة في الإنشاد إلاّ ليعيد إلى الأذهان صلات القربى بين القدامسة والأغارقة. وأمّا البحّارة فيمثّلون الصّيادنة الذين فَرَوا عباب اليمّ، وتحدَّوا المخاطر، ليبلغوا أقاصي الأرض.
ولهذه الجّوقات تدخّل في أواخر كلٍّ من الفصول الثّلاثة، ولكنّ المنشدين يُنشدون أغانيهم من داخل الكواليس، ولا يتدخّلون في الحدث ولا يتوجّهون بالكلام إلى الممثّلين، ولا يظهرون على خشبة المسرح كما في مسرحيّة أوديب ملكًا. وأغاني البحّارة في نهاية الفصل الأوّل تعبيرٌ عن فخرهم بقوّتهم وعنفوانهم وجمال وطنهم، وبتحدّيهم البحار واقتحامهم الأمواج بمراكبهم المصنوعة من أخشاب الأرز، قصد المغامرة والتّجارة، وذلك لزيادة العصف المأسويّ، وتعبئة البطل في مواجهة خصومه؛ والمقاتلة الأغارقةينشدون في أواخر الفصل الثّاني نشيد القتال، وأمّا الإلاهات فدورهنّ ينحصر في نهاية الفصل الثّالث بثلاثة أناشيد فيها نَوح(κύμος) ولوعة على أورُب.
3. المكان
أ . في أوديب ملكًا تجري أحداث هذه المأساة في ثيبا، أمام واجهة القصر الملكيّ، حيث تتحلّق مجموعة من النّاس حول مذبح، يتضرّعون وهم يحملون غصون الغار، ويأتي أوديب للقائهم.
ب. في قدموس صخر موحش الكهوف من ساحل البيوسي، في بلاد اليونان، في منتصف الألف الثّاني ق. م.
وبالإمكان أيضًا ملاحظة الفارق الزّمني الذي اقترحه سعيد عقل، وتناقضه مع الواقع التّاريخيّ.
ب. في قدموس صخر موحش الكهوف من ساحل البيوسي، في بلاد اليونان، في منتصف الألف الثّاني ق. م.
وبالإمكان أيضًا ملاحظة الفارق الزّمني الذي اقترحه سعيد عقل، وتناقضه مع الواقع التّاريخيّ.
4. أقسام المأساة
أ. أقسام المأساة اليونانيّة- البرولوغوس προλόγος
- الباروذوس παρόδος (أوّل نشيد للخورص)
- الإبيزود الأوّل Επιζόδος (الفصل الأوّل)
- السّتاسيمون الأوّلστασιμών
- الإبيزود (الفصل) الثّاني
- السّتاسيمون الثّاني
- الإبيزود (الفصل) الثّالث
- السّتاسيمون الثّالث
- الإبيزود (الفصل) الرّابع
- الإكسوذوس εξόδος
ب. فصول المأساة في قدموس المأساة مؤلّفة من ثلاثة فصول، وفي كلّ فصل عدد من المشاهد:
- الفصل الأوّل يتكوّن من ثلاثة مشاهد.
- الفصل الثّاني يتكوّن من ثلاثة مشاهد.
- الفصل الثّالث يتكوّن من تسعة مشاهد.
- الباروذوس παρόδος (أوّل نشيد للخورص)
- الإبيزود الأوّل Επιζόδος (الفصل الأوّل)
- السّتاسيمون الأوّلστασιμών
- الإبيزود (الفصل) الثّاني
- السّتاسيمون الثّاني
- الإبيزود (الفصل) الثّالث
- السّتاسيمون الثّالث
- الإبيزود (الفصل) الرّابع
- الإكسوذوس εξόδος
ب. فصول المأساة في قدموس المأساة مؤلّفة من ثلاثة فصول، وفي كلّ فصل عدد من المشاهد:
- الفصل الأوّل يتكوّن من ثلاثة مشاهد.
- الفصل الثّاني يتكوّن من ثلاثة مشاهد.
- الفصل الثّالث يتكوّن من تسعة مشاهد.
ج. توليف
لا شكّ في أنّ أوجه الاختلاف تبدو واضحة بين المأساتَين من حيث عدد الممثّلين الذين يظهرون على خشبة المسرح. ففي حين يقتصر عددهم في الفصل الأوّل من قدموس على أربعة ممثّلين، هم أوربّ ومرى والأعمى وقدموس، وجوقة البحّارة الصّيادنة الذين يبقون داخل الكواليس فلا نسمع إلاّ نشيدهم؛ نجدهم ثلاثة في برولوغوس أوديب ملكًا: أوديب والكاهن وكريون، ولكنّ الشّعب حاضر على خشبة المسرح، بالإضافة إلى الخورص الذي يتألّف من خمسة عشر عنصرًا، ممّا يجعل المسرح الإغريقيّ مكتظًّا، وفي حركة دائمة.
وفي حين أنّ المكان في أوديب ملكًا هو الباحة أمام بلاط الملك أوديب، ممّا يوحي بجوّ من العظمة والجلال؛ فإنّ المكان في قدموس، عند صخر موحش الكهوف من ساحل البيوسي، في بلاد اليونان، يعكس الجو الموحش الذي ينتج من الخوف والإحساس بالغربة.
والبرولوغوس قصير بالنّسبة إلى الفصل الأوّل في قدموس، لأنّه تمهيد للدّخول في العمل المسرحيّ، وفيه تعريف بالشّخصيّات وعرضٌ للمشكلة؛ في حين أنّه في قدموس يتألّف من ثلاثة مشاهد، الأوّل فيها هو الأطوَل. ولكنّهما كلاهما ينتهيان بغناء الخورص الذي حدّدنا دوره سابقًا، مع الفوارق في أقسام المأساتَين.
وفي حين أنّ المكان في أوديب ملكًا هو الباحة أمام بلاط الملك أوديب، ممّا يوحي بجوّ من العظمة والجلال؛ فإنّ المكان في قدموس، عند صخر موحش الكهوف من ساحل البيوسي، في بلاد اليونان، يعكس الجو الموحش الذي ينتج من الخوف والإحساس بالغربة.
والبرولوغوس قصير بالنّسبة إلى الفصل الأوّل في قدموس، لأنّه تمهيد للدّخول في العمل المسرحيّ، وفيه تعريف بالشّخصيّات وعرضٌ للمشكلة؛ في حين أنّه في قدموس يتألّف من ثلاثة مشاهد، الأوّل فيها هو الأطوَل. ولكنّهما كلاهما ينتهيان بغناء الخورص الذي حدّدنا دوره سابقًا، مع الفوارق في أقسام المأساتَين.
القسم الثّـالث
بين البرولوغوس في "أوديب ملكا" والفصل الأوّل في "قدموس"
1. البرولوغوس
أ. وظيفة البرولوغوس
البرولوغوس هو الخطاب الذي يسبق الحوار المسرحيّ والمدخل إلى العمل المأسويّ، وبإمكاننا ملاحظة وظيفته الأساسيّة في العمل المأسويّ، ففي التّقاليد اليونانيّة كان يمكن أن يقتصر على مونولوج واحد فقط؛ ولكنّه هنا يتألّف من حوارَين متتابعين: حوار بين أوديب والكاهن، ثمّ حوار بين أوديب وكريون. وينتهي بباروذوس أي بالنّشيد الأساس. فكيف يتشوّق المُشاهد إلى معرفة الحقيقة خلال البرولوغوس؟
* يتيح البرولوغوس تحديد مكان الحدث: بلاط الملك أوديب، منه يمارس سلطته وحكمه؛ ومكان سكنى لايوس الذي أضحى مصدرًا للّعنة. وفي البرولوغوس يقترب المواطنون من الملك الحاكم، مخلّص الأمّة، كما سيذكر أوديب ذلك في المقطع الثّاني: "يا أولادي المساكين، إنّكم تأتون إليّ حاملين الأمنيات التي لا أجهلها"[5].
* يعرض البرولوغوس العناصرالأساسيّة التي تتكوّن منها عقدة المسرحيّة:
- التّذكير بماض مخيف قبل أن يتغلّب أوديب على أمّ الهول.
- يُذكر فيه موت لايوس.
- تُعَدّدُ مآثر أوديب تجاه الأمّة.
- عودة الخوف من الطّاعون.
* يُظهر البرولوغوس جوّ المأساة، حيث يُبدي الشّعب احترامه لأوديب وثقته به وخضوعه له، وهذا ما يرتّب عليّه مسؤوليّةً لالتزام جديد: "فأنت حين دخلت إلى مدينتنا القدموسيّة حرّرتنا [...] نحن نتوجّه إليك. كلّنا نرجوك أن تجدَ لنا دواءً يوحي إليك إله بسرّه، أو ينبئك به إنسان فانٍ. [...] هذه الأرض تعتبرك اليوم مخلّصَها، فهي تعرف كم ضحّيت لأجلها"[6]. هذا هو البحث عن علاج لجميع مآسي الشّعب، وهي مآسٍ تدفع بـأوديب وكريون، بعد استشارة العرّافين، إلى استعجال الأمور. وهذا ما يظهر في حوار أوديب وكريون الذي يبدأ بتوجيه بعض الملامة قائلاً: "لايوس كان قبلاً قائد بلادنا قبل أن تتسلّم زمام أمور مدينتنا"[7]. وهو بذلك يريد أن يقول إنّ لايوس، لو كان ما يزال حيًا، لكان قام بواجبه خيرًا منك.
- أخيرًا ، يتيح البرولوغوس الفرصة أمام المشاهد للاطّلاع على علاقة الملك بشعبه، وفيه يُعلَن
بدءُ التأزّم، ويبدأ التّمهيد للعقدة وللصّراع النّفسيّ.
- لقد تغلّب أوديب على التّنّين (أمّ الهول)، فهو ظهر منقذًا وحاميًا للأمّة ومدافعًا عنها. وهو، منذ البرولوغوس، يلتزم بإنقاذ ثيبا من اللعنة التي تهدّدها. ويبدو ملكًا حقيقيًا، قادرًا، كما كانت تعني الكلمة قديمًا τιράνος. هذا هو الدور المزدوج الذي يضطلع به أوديب: سيُنصف المدينة ويخلّصها من اللعنة التي حلّت بها؛ وهو في المقابل، قاتل لايوس والمسؤول الأوّل عن هذه المصائب التي يعانيها الشّعب.
- بإمكاننا أن نلاحظ المأزق الذي يتعرّض له أوديب، فهو قد اضطرَّ لإرسال كريون إلى دلفي حيث أبّولون، إله النّور والمعرفة، ليستجلي الموقف ويطلب المعرفة منه، ويسأله عن الدّواء النّاجع الذي ينقذ المدينة.
- كلّ كلام قيل في البرولوغوس يكشف عن جوانب لا نعرفها في شخصيّات حاضرة وأخرى غائبة:
- أوديب يخرج للقاء الشّعب بتواضع ومحبّة ويستمع لما يقوله الكاهن بأناة وصبر.
- الكاهن بليغ الكلام، جريء وواثق من نفسه، قادر على التّعبير والإقناع، يتكلّم باسم الشّعب بمنطق وحكمة، ويرجو أوديبَ أن يخلّص المدينة من الطّاعون، كما خلّصها من أمّ الهول. وهو يعدّد صفات أوديب البطل الذي أنقذ المدينة، واستحق أن يقترن بأرملة لايوس الملك، وحكم بعدل وحكمة وبطش.
- كريون أخو جوكاست وشريك من الدّرجة الثّانية في الحكم. يستشيره أوديب ويوكل إليه مهمّة مقابلة أبولون في أمر الدّواء الذي ينقذ المدينة من الطّاعون. مُتَرَوٍّ ومتحفّظٌ، ويظهر ذلك من كلامه عندما يصل إلى المسرح ويسأله أوديب بما أوحى إليه الإله، فيجيب بكلام فيه بعض الأمل، ثم يسأل أوديب إن كان يريد أن يستمع إليه أمام النّاس أو يريد أن يختليا ليُسرَّ إليه بالأمر.
- لايوس الملك (غائب) الذي يخبر عنه كريون أنّه كان ذاهبا لاستشارة العرّاف بأمر خاصّ، وهاجمه قطّاع طرق، فقُتل هو ورجاله الذين لم يبقَ منهم إلاّ واحد، فرّ ولم يستطع أن يُخبر غير ذلك.
- أمّ الهول (غائبة) التي كانت، بأغانيها المظلمة، تجبر النّاس على التّخلّي عن مهمّة البحث عن قاتل لايوس. وهذا ما كشف عنه كريون.
- الإله أبولون (غائب) فوييبوس، إله المعرفة والنّور.
- الشّاهد (غائب) الوحيد على موت لايوس.
- الشّعب
ب. التّحليل العاملي
منذ بداية العمل المأسويّ إذًا تُعلَن العقدة، عندما نرى أوديب على المسرح، يسأل النّاس عن سبب مجيئهم إليه، حاملين أغصان الغار والمباخر، ومنشدين أناشيد النّواح والأسى؛ وعندما يعلن الكاهن أنّ مرض الطّاعون قد تفشّى في المدينة القدموسيّة، ثيبا، ويكاد يقضي على جميع النّاس؛ وأنّهم يطلبون إليه أن ينقذهم من هذا الشّرّ الذي أصابهم، كما أنقذهم قبلاً من أمّ الهول.
ويتدرّج العمل المأسوي نحو التأزّم، عند مجيء كريون الذي يكشف ما قاله الإله أبولون عن مقتل لايوس وغضب الآلهة، وأنّ المجرم موجود في المدينة، فيتكفّل أوديب بالكشف عن السّرّ. وفي نهاية البرولوغوس يدعو الكاهنُ النّاس إلى الانصراف موضحًا ثقته بـأوديب.
2. الفصل الأوّل في قدموس
أ . التّحليل العامليّ - في المشهد الأوّل، أوروب في نحيب ممضّ لكونها سبب حرب بين أخيها قدموس والإغريق، وتحاول مرى، مرضعها أن تعزّيها وأن تزيح السّتار عن أسرار أورب، فإذا في الأولمب، جبل الآلهة، ضجّة وغضبة من جانب الإلهات، فإنّهنّ لم يرضين عن عمل زوش إذ اعتلق فتاة بشرًا، وتوعّدنَ وتهدّدنَ بدافع الغيرة. فخاف زوش وجعل بباب أوربّ تنّينًا هائلاً لحراستها، فإن هو مات حلّت نقمة الإلهات بأورُب.
Enlèvement d'Europe by Nöel-Nicolas Coypel, c. 1726
The birthplace of Europa, Tyre, Lebanon
- في المشهد الثّاني، يدخل الأعمى، وهو عرّاف إغريقيّ ذو مكر ومقدرة ودهـاء، فيبصر – في رؤيا - قدموس على شواطئ البيوسي، يتقدّمه جيش من الذّعر، فيستغضب الأولمب طالبًا هبوط نار على الفاتح الفينيقيّ، فتتوسّل إليه أوربّ أن يترفّق ويُقنع أخاها بالعودة إلى بلاده والتّخلّي عن الحرب.
- في المشهد الثّالث، يمضي الأعمى ناصحًا قدموس، في شيء من التهديد والإشفاق السّاخر، ألاّ يتعرّض لهول التّنّين، حارس أورب الذي استصرخه الإغريق والآلهة لردع قدموس. ولكنّ البطل الصّيدونيّ لا يُصغي إلى أقواله.
ب. التّحليل الزّمنيّ والرّؤيا المأسويّة
الحوار بين أورب ومرى في بداية المشهد الأوّل يعرّف بهما ويكشف عن مكان وجودهما في الغربة بعيدًا عن موطنهما. والقصّة هنا تُعرَض من آخرها ثمّ تتراجع لتصل إلى أوّلها شيئًا فشيئًا، فنحن أمام حدث، ثمّ نتراجع لنكتشف سبب حدوثه: أورب هي ابنة أشنّار ملك صيدون وسيّد الحواضر، ومرى هي مرضعها ومرضع أخيها قدموس "زين الشّباب". وهي تبكي طالبة إلى السّماء أن تترأف، وتتذكّر يوم اختُطفت ومرى من لبنان واعتلقت زوش.
ويتدرّج العمل المأسويّ ببطء في هذا المشهد، إذ يتوقّف السّرد أحيانًا بسبب الوصف، فنجد أوربّ تستذكر بلدها الجميل بتنميق كلاميّ prosaïque، فتصف قُراه الزّمرّديّة، ثمّ تنتقل إلى ذكر المركب الفينيقيّ، وتعود فتحكي عن الزّهور والطّبيعة والطّيور والزّورق... ولكنّ النّفَس المأسويّ لا يغيب عن كلامها، فهي تبدأ كلامها باسترحام السّماء المتجهّمة لكي ترأف بالجراح، وتبكي وتتأوّه بين الفينة والفينة ذاكرة غربتها وبؤسها، وذاكرة المغامرة الفينيقيّة في البحر، وأخاها الذي أتى بجيشه ليحارب الإغريق، وأنّها مسبّبة لهذا القتال. ثمّ يحصل استرجاع للزّمان الغابر في كلام مرى:
أعجيب؟! ونحن أوّل من حطّ بأرض كفًا، وطرفًا بنجمِ[8]!
وفي حدث مسرحيّ مفاجئ (coup de théâtre) يُعيدنا إلى أرض الواقع، نجد مرى تسمّى المنطقة باسم أورب:
كن، يها الصّقع، باسم أوربّ، أرض اليمن، أرض النّهى، وأرض الجمالِ[9].
وتذكر فضل اليد المباركة التي جادت على الأرض بالحرث والزّرع، وتعود فتُثني على بسالة مواطنيها وجرأتهم في تحدّي المخاطر ونشر الحرف. وفي لحظة، يعود فكر أوربّ إلى قدموس الذي أتى يتحدّى الإغريق في عقر دارهم، فتضجّ الآلهة وتغضب في الأولمب، وتؤلّب التّنّين، وتوغر صدر البحر، وتطلق الأمواج جبالاً فتمزّق سفن قدموس، وتحين ساعة النّزال، أوان الحقيقة، حيث "لا يُرى الفجرُ أو يخرَّ قتيلاً - واحد منهما"[10]. فهنا تتسارع الأحداث زمنيًا، وتتدرّج صعودًا حتّى تصل إلى ذروة التّأزّم المأسويّ، وذلك بأسلوب ملحميّ لافت تتغيّر فيه الصّور بسرعة مذهلة. ثم يتوقّف السّرد، وتسأل مرى عن التّنّين/ الخصم، فتجيبها أوربّ واصفة إيّاه "كأنّما هي تهذي"، فإذا هو:
..."أمَرُّ من إنسانِ،
مغــلقٌ، إن يَبِنْ فأظفـارُ ليـثٍ وجنـاحَي نَسرٍ على أفعوانِ،
وحشُ وحشِ الوجود، سرّ الغباواتِ إذا قُدِّرَت لهنّ السّنـــينُ،
[...] ينفث النّار من حديد لسانٍ ويفتّ الصّخر الأصمّ بنابـهِ،
إن ينفّـضْ جناحــه يُنتنِ الوردُ ويسودّ زنبـق في شبابه[...][11]
وإذا عيناه تصبّان هجيرًا، وفمه ينفث نارًا، وهو يلتذّ بالجيفة والدّمار. وفي هذا الوصف الأسطوريّ للتّنّين، رمز الشّرّ، نتبيّن صورة الشّيطان في الدّيانات الموحّدة، وهونقيض الخير والفضيلة، ونجد سعيد عقل يعظّم قوّته ويقبّح صورته في آن معًا، مستخدمًا التّقنيّة التّقليديّة. وذلك ليبيّن اقتدار قدموس في غلبته على عدوّ غاشم[12]، من خلال مقابلة ملحميّة طويلة، فيها الكثير من المغالاة والصّور الخارقة.
وبعد هذا التّوقّف السّرديّ (pause) تعود أوربّ إلى الواقع المأسويّ، فتجد أنّ القدر الغاشم هو الذي يتحكّم بالمصائر، وتخشى أن ينقلب عليهم فيودي بهم، لأنّه:
"إن يشاء يغيّض ذرى الأولمب، أو يضرب الحضيض بزوشا
شاء أن يعلق الإله ابنة الأرضين[13]
فلقد انفجر غضب هيرا والإلهات وقمنَ يتوعّدنَ، فخاف زوش ووضع تنّينًا وحشًا على بابها من صلبهنّ، وهكذا لن يجرؤ قدموس على مهاجمة التّنّين لأنّه إن مات ماتت أخته. ولا أحد يستطيع أن يقدّر الأقدار.
هذه الأفكار التي تَرِد في حوار أوربّ ومرى تجعل عقدة القصّة أشد مأسويّة، والحبكة أكثر تماسكًا، لأنّ القدَر "الأعمى" هو المقتدِر، وكلّ ما حولهما أصبح معاكسًا، وما من مخرج في هذا الوضع الدّراميّ إلاّ أن تبدأ المعركة التي يفصل فيها القدر.
وفي المشهد الثّاني، يظهر الأعمى الذي يتنبّأ باقتراب الوقيعة ودنوّ الأجل المحتّم. فتضرع إليه أوربّ أن يكون رفيقًا في إقناع قدموس بالعودة إلى صيدون. وفي كلامها الكثير من الحزن واليأس والخوف من الدّهر (القدر) الأعمى الذي يقف بالمرصاد، ويحمل المنجل ليزرع الموت ويحصد الرّؤوس: "قدر فوقنا".
وفي المشهد الثّالث حوار بين قدموس والأعمى الذي يحاول ثنيَه عن محاربة الإغريق ومواجهة التّنّين، منتقصًا من قيمة الصّيدونيّين ومستخفًّا ببأسهم وكبريائهم، ذاكرًا له أنّ وحش البيوسي قتل بالأمس رفاقه. ولكنّ قدموس يذكر له أنّ الوحش ارتدّ عنه كليلاً. ويتتابع الحوار، فيحاول الأعمى أن يقنعه بالعدول عن القتال بشتّى الوسائل، واصفًا إيّاه بقرصان بحر، ومسترسلاً في الإهانة؛ ولكنّ قدموس لا ينثني، بل يعدّد مآثر قومه ومآتيَهم. ويعدّد المدن والجزر والبلدان التي دخلوها متحدّين العواصف والأنواء والمخاطر.
ويروح العرّاف الأعمى، لغاية في النّفس، يتنبّأ بما يشبه المرافعة عمّا سيحصل بعد ذلك العصر، عندما ستُحاصَرُ صور، وبأنّ جميع مآثر الفينيقيّين ستصبح ذكرى في البال. ويدعو قدموس إلى أن يستفيق من حلم المجد ويُشفى من طموحه. ولكنّ القدموسيّ العنيد لا يرعوي، فهو لن يُهزَمَ أمام المصاعب، حتّى ولو خسر كلّ شيء. وهنا، أمام تصميم قدموس على المواجهة، يُنذره الأعمى:" المقادير أو طموحك، يا قدموس"[14].
وينطلق صوت البحّارة الصّيادنة من الدّاخل، فيُنذر الأعمى أيضًا ويهدّد كأنّما يستنزل اللعنة، ذاكرًا البومة، رمز الخراب والموت، ليبثَّ الرّعب في قلب قدموس ورفاقه؛ ولكنّ قدموس ينتفض بعزّة ويصرخ : "بوم؟... ياريح هدّي الجبالا!" وتتعالى من جديد أصوات البحّارة الصّيادنة مهلّلة للنّصر والغلبة[15].
خاتمــة
من خلال استعراضنا للبرولوغوس في أوديب ملكًا، وللفصل الأوّل في قدموس، نتبيّن الرّؤيا المأسويّة التي تكاد تكون هي نفسها، فالبَطلان يعاندان القدر الذي قال كلمته، والإنسان غير قادر على التّصدّي للصّدفة العمياء التي تجعل الصّدام حتميًا؛ ولكن لا مناصَ من المواجهة بكلّ ما أوتي البطل من قوّة وشجاعة. فـأوديب مستعدّ لمعرفة الحقيقة والتّضحية بكلّ شيء في سبيل إنقاذ مدينته، لأنّه يدافع عن وطنه وشرفه؛ وقدموس، في المقابل، ترك وطنه، وهو مستعدّ للقتال الذي لن تنجو أخته من عاقبته حتمًا، وإن انتصر على التّنّين، ولكنّ عزّته هي انتصار لأبناء وطنه. فكلاهما إذًا يخضعان لحتميّة القضاء والقدر التي تتحكّم بمصائر النّاس.
كلاهما أيضًا يملكان روح التّخطّي، التي تدفع بهما إلى الارتقاء وتخطّي الحواجز للوصول إلى مبتغاهما، فلا شيء يثنيهما، ولا يقبلان حلاًّ وسطًا، فإمّا كلّ شيء أو لا شيء. وصراع البطل في كلا المأساتين محكوم بالفشل سلفًا، ولكنّه يبقى يقاتل ويصارع القدر على الرّغم من معرفته بأنّه مهزوم ولو انتصر. وأمّا العدوّ، أي التّنّين في قدموس ، فهو كائن حيّ يتمتّع بالذّكاء، وضعه الإله زوش بموافقة الآلهة أمام باب أورب؛ في حين أنّه في أوديب ملكًا مرض الطّاعون الذي أرسلته الآلهة لعنةً إلى ثيبا وعقابًا لشعبها.
ختامًا، يبقى أن نشير إلى أنّ مأساة أوديب ملكًا كتبها صوفوكليس شعرًا باللغة اليونانيّة القديمة، على وزن إيامبوس Ιαμπος ) (، ولغتها فصحى مصطنعة، ولكنّها قريبة من فهم النّاس. وقد تُرجمت إلى الفرنسيّة مع الاحتفاظ بالحركة الشّعريّة من دون الوزن. وأمّا قدموس فقد كتبها سعيد عقل شعرًا على وزن بحر الخفيف، ونَحَتَهُ بدقّةٍ، ووشّاه بالرّموز والصّور والموسيقى. ولئن شطح أحيانًا عن الحركة الدّراميّة، وغلبت نزعته الوطنيّة أو الشّعريّة فأخّرت تلاحق الأحداث الذي يميّز العمل المسرحيّ، فإنّه ولا شكّ، أتى بعمل مأسويٍّ كلاسيكيّ فريد، يُعدّ من طلائع الأعمال المأسويّة العربيّة. وهذا ما يشكّل التقاءً إيجابيًا مع الأعمال المسرحيّة العالميّة.
*********************************************************************************
قائمة المصـادر والمراجع
وليام الخازن، الحضارة العبّاسيّة، ط 2، دار المشرق، بيروت 1992
وليام الخازن، الشّعر والوطنيّة في لبنان والبلاد العربيّة، ط 3، دار العلم للملايين، بيروت 1992
نيكولا سعادة، قضايا أدبيّة، دار مارون عبّود، بيروت 1984
سعيد عقل،قدموس، ط 3، المكتب التّجاريّ للطّباعة والتّوزيع والنّشر، بيروت1961
مطران خليل مطران، مرآة الأيّام في ملخّص التّاريخ العام، دار نظير عبّود، بيروت 1995
أنطوان معلوف، المدخل إلى المأساة (التّراجيديا) والفلسفة المأسويّة، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، بيروت 1982
محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، ط 2، دار العودة، بيروت 1999
Sophocle, Oedipe Roi, Tr. Marie Rose Rougier, Hachette, Paris, 1994
1. سعيد عقل، قدموس، ص 27.
2. محمّد غنيمي هلال، الأدب المقارن، ص 294، 295.
3. خليل مطران، مرآة الأيّام في ملخّص التّاريخ العام، ص 107، 108.
4. راجع المرجع نفسه، ص 108، 109.
5. Sophocle, Oedipe Roi, trad. Marie- Rose Rougier, P.13.
6. Idem, P.12, 13.
7. Sophocle, Oedipe Roi, trad. Marie- Rose Rougier, P. 15.
8. سعيد عقل، قدموس، ص 37.
9. سعيد عقل، قدموس، ص 38، 39.
10. المصدر نفسه، ص 41.
11. المصدر نفسه ، ص 43، 44.
12. راجع المصدر نفسه، ص 44، 45، 46.
13. المصدر نفسه، ص 47.
14. سعيد عقل، قدموس، ص 70.
15. المصدر نفسه، ص 72، 73.
قدموس وأديب ملكا ، دراسة مقارباتية بين المسرحيتين
Reviewed by Unknown
on
3:58:00 م
Rating:
ليست هناك تعليقات: